خــواطــر مــوثــره
أهرب من وحدتي أبحث عن مأوى، لكنني أعود في النهاية لأجده فيها. في الوحدة يكمن الأمان، فهي المكان الوحيد الذي لا يمكن أن أخطئ فيه مع نفسي. في الوحدة يستكين ألمي، إذ لن أجد كلمات جديدة تجرحني مجددًا. وفي تلك العزلة تستقر روحي، فتتحول إلى ظلٍّ لا يخترقه شعورٌ بالحزن أو الفرح.
أما زال موعد الرحيل مؤجلًا؟ لقد طال انتظاري وما زلت هنا، مللت من رتابة خطاي الهادئة ومن نبضات قلبي العشوائية التي لا هدوء لها. كرهت تكرار الأيام التي تعيد نسخ نفسها كل صباح، ولا جديد فيها سوى الثقل الذي تحمله معها.
لم أعد قادرًا على تحمّل نفسي، يتسع في داخلي احتقاري لذاتي كل يوم وكأنني عدوّي الأول. أخطائي تثقل كاهلي، ويزداد كرهي ليأسي وتردّدي. ورغم ذلك، أسير في ذات الطريق دون أن أصل إلى وجهة أو موعد للرحيل.
تعضّني لدغات الحزن يومًا بعد يوم، كما تلسعني قهوتي الساخنة كل صباح. ترتجف روحي ببرودة القسوة التي تتسرب إلى أعماقي، كعاصفة تنخر عظام طفل يحتضن الشوارع فُرُشًا للنوم.
أعيش في متاهة سوداء بلا ملامح أو خرائط، أخوض معارك مع أفكاري وحدي، أصارع نفسي وحدها بلا منتصر أو مهزوم. رخامي يشبهني؛ غبار بلا وزن وسكون يغمره العدم. صرخة مكتومة وألم مستوطن. رخامي نقيّ المظهر لكنه نسي البداية وضاع بين وجوده وغايته، ينتظر بصمت شرخ النهاية ليغرق في سواده.
لم أبن جداراً بقي صلباً، ولم أشيد القصور لتصمد ممالكها. كل ما تبقّى هو رخام هش ينتظر نهاية محتومة، على وشك الانهيار والتفتت.
بدايتي اختلفت عن كل البدايات الأخرى؛ لم تلتفت لخطوة الانطلاق المعتادة. وصلت إلى نفسي في منتصف الطريق. وها أنا أسرع نحو النهاية بدل أن أتعلم أكثر وأكبر بخطى واثقة.
لا تنبئني نهايتي بشيء مطمئن. إنها سوداء، عابثة بزمن البداية وبكل محطات العمر؛ تارة تتجاهلها وتلتزم بهدنة صامتة، وتارة أخرى تجرفها بجذورها كعاصفة اقتلعت شجرة هزمتها رياح لا تهدأ.
يمر الوقت بصعوبة، تتباطأ الدقائق وكأنها تهزأ بي. أحاول التقدم في هذا المدار الضيق الذي يحاصرني بالصمت والخوف والقلق. فروحي تتحول أحيانًا إلى لا شيء يجاهد ليجد لنفسه مكانًا حتى في الفراغ.
تراودني لحظات أفتقد فيها إلى معنى الزمان والمكان. أتبعثر كغبار تطاير بلا اتجاه ثم أعود وألتم عند نفس النقطة، عند أول البداية.
يأتي طفل صغير يسألني عن سر الحياة، يطلب مني مرةً بعد أخرى أن أخبره ماذا ينتظرنا خلف الأيام. ينظر إليّ ببراءة طالباً إجابة طمأنينة، فأهمس له بخفوت: "لا تخف، مع الوقت كل شيء يتغير... سيصبح أفضل." لكنه لا يعلم أنني ما زلت أبحث عن إجابات لنفسي قبل أن أهديه أي منها.
تمضي الأفكار كأمواج تعبر الروح، أبحث عن حكمة مختبئة في حكايات كبار العمر، عن كلماتهم التي ترسم خارطة طريق للحياة، تطمئن قلبي وتمنحني قوة الاستمرار. أريد أن يخبرني أحدهم بأن الشقاء الذي أعيشه الآن يحمل وعداً براحة قادمة، وأن كل تعب له نهاية تليق بالصبر. أحتاج لمن يروي لي كم عدد العثرات وخيبات الأمل التي تنتظرني، كم ليلة سأقضيها حزيناً وكم صباحاً سأستيقظ مرتبكاً، ولكن أيضاً كم لحظة فرح ستأتي لتحمل معها طمأنينة استثنائية.
كم أرغب في الحديث مع شخص يفهم عمق الروح، يشعر بارتباك الداخل، يساعدني في تخطي حواجز الماضي والمستقبل. شخص ينير لي الطريق ويريني أين أحسن وأين أخطأت. هناك شعور غريب بالنضج الذي لا يزال يحمل معه أسئلة بريئة عن هذه الحياة. ربما، يوماً ما، سأكون أنا من يمنح النصيحة لصغير السن، بينما بداخلي ما زلت أنتظرها.
أفتش عن ذاك الراوي الذي يحكي قصصاً تجعلني أضحك بصدق وتملأني بالأمل. عن شخص يتحدث عن تحولاته وكيف قاوم الزمن واستطاع أن يجد معاني جديدة وسط الضجر واليأس. أريد أن أتعلم منه كيف تصبح الحياة أكثر إشراقاً رغم المعارك.
وحين ينفد حبر قلمي، سأطلق آخر قطرة لتُشكّل ختاماً هادئاً في عالمي الجديد. ربما على شرفة منزلي، لن ينتظرني هناك أي جديد، ولكني سأغرف صفحة بيضاء أرسم عليها ملامحي من البداية، أمنحها اسماً ومعنى، وأغمرها بكل التساؤلات والعتاب.
عند أبواب حياتي سأترك علامة وداع، ليست تغيرها الأيام ولا تبدلها الشكوك. وداع يحمل إرادة أقوى من قراراتي المترددة، وتعليمات تمتد حتى بعد فناء الحبر. سأختار الانفصال عن هذا الزخم، أخلق مشهداً جمالياً أعيش فيه لحظتي الخاصة. سأنحني لأراقب الأوراق الساقطة، باحثاً عن شاعرية قديمة فقدتها منذ زمن، ثم أنهض لأغادر إلى مستقر آخر غير معلوم.
سأنعزل عن العالم، سأغلق الباب في وجه كل طارق وأبقى خلف نافذتي مترقبًا كل من يحاول الاقتراب، فقط لأكرر إغلاق الباب في وجهه أيضًا. سأجعل كل من يطرق بابي ينتظر عند حديقة سأصممها حول بيتي لاحقًا. سأخلق جمهورًا متلهفًا لرؤيتي، لكنني لن أظهر. فظهوري لن يكون سوى خيبة أمل لكل منتظر وكل مترقّب.
سأترك العشوائية تتحكم في حياتي، أفكاري وكلماتي. سأكتب ما لا يرتبط بموضوع، وألون أحرفي بألوان صارخة تخطف الأنظار. لدي مخططات كثيرة، لكنها لن تُنفّذ، بل سأمزقها وأبعثرها. حتى مشاعري، سأغمرها في الفوضى، وليس لدي الكم الهائل من الأفكار، ولكن لدي الكثير من العبث، وهذا العبث هو القوة الدافعة التي أستند إليها للمضي قدماً.
سأسلك مساراً فريداً بعيداً عن استقرار الحياة، متجاهلاً الطرق التقليدية للكواكب والمجرات. سأقرر الرحيل عن هذا الكوكب بلا عودة، وأبدأ صفحة نقية في دفتر جديد على كوكب جديد. هناك سأبني بيتي في منتصف تلك الصفحة حيث رسمت وجهي. عند أطراف تلك الصفحة سأقف لأضع سهماً يُشير إلى بيتي الجديد، وسأرسم طريقاً ملتوية لا تصل إلا لمن لا يبحث عن الوصول.
ليتك وسادتي في نومي، أنثر عليها همومي وأسكب ما تبقى من دمعٍ فوقها. ليتك فنجان قهوتي في صحوتي، أرتشف مرّها ليطيب لي صراع مذاقها. ليتك ابتسامتي وصدى ضحكتي العميق، أسمو بك فوق كل ما أريد. ليتك سكيني الذي يوحدني، فيهدئ ضجيج العالم من حولي. ليتك ليلي ومأواي الذي أهرب إليه من غضب الحياة وصخب الكره. ليتك شمسي التي تقاوم ظلمات حزني وتنير أركان العتمة المترامية في داخلي.
ليتك تكون لي دائماً، وليتني أكون لك فقط، فتنتصر بي على الحياة بكل ما فيها ومن فيها. وليتني لك دائماً، ليغلق وجودك علي حدود العالم كله ويراني منك فقط.
