خـواطر الليل
أحلم أن أتحوّل إلى نغمة موسيقية تتراقص بين أصابع العازفين، أريد أن أكون قصيدة تتناقلها القلوب مستقرّة في أذهان العشاق. وأكثر من كل ذلك، أتوق أن أكون حكاية يرويها عشاق الليل وتصبح منثورة على شفتَي مغنٍّ ترددها الأرواح.
في صداقة الليل، وجدت سلامي أخيرًا. الليل الآن مأمني، هو الكتف الذي يُسكت صخب العالم ويمنحني سكينةً لا يعرفها سوى من احتضنه الظلام بحنان. إن ضوءه المموّه بات جليًا لي وحدي، يشبه انعكاس روحٍ خفية تهدّئ زوبعة داخلي.
وفي عتمة الليل، أحلم أن أسكن همسةً في أذن عاشقة لا تُنسى أو أن أكون نسيمًا عابثًا بورق شجر الخريف العتيق متنقلًا برفق بين الوجوه المنسية. وأتمنى أن أكون قمرًا، أخطف الوحدة من قلوب التائهين وأزرع فيها دفءَ الاجتماع والمرح.
أفكاري تأتي لزيارتي ليلاً، تبحث عن مأوى بين زوايا عقلي. تأتيني الموسيقى بألحان جديدة تجمع بين الشجن والأمل. الكلمات كذلك تتناثر كقطع زجاج تشتعل في رأسي وتنسكب بلا توقف على أوراقي.
بالنهار، كنت أطلب الكثير وكنت أغفل طموحي مع حلول الليل. أردت أن أكون شعاعًا ينبثق نهارًا وينطفئ بهدوء ليلاً. أما الآن، فلا أريد سوى أن أكون نورًا خافتًا يتوهج ليلاً بهدوء ويغيب دون أثر مع شروق الصباح.
ملّ الحزن من أعماقي، ونيابة عني رفعت الكلمات سلاحها. لكن هنا تبدأ مخاوفي، فأنا من دون حزني لست أنا، ومن دون ضعفي أخسر هويتي. يبدو أن وهني وضعفي هما ملامح وجودي، ومن دونهما لن أصمد.
أعيش في دائرة انتظار لا تنتهي، أرحل بخيالي إلى أحزاني وأتأمل فيها، ثم أروي لنفسي قصصًا عن السعادة والحب وكأنها أساطير بعيدة المنال. سرعان ما أعود لركل ما تبقى لي من سنوات وأيام بشعور ثقيل من الامتعاض.
أقف على باب التغيير، أرغب في التحول والانقلاب على ذاتي. لكن الملل يكتنف أوقاتي، وضاقت علي حياتي كأنها قيد لا ينكسر. أريد أن أرحل، لكن ذلك القطار المتأخر ما زال يتكاسل عن الوصول.
أحاول أن أخط كلمات عن حياة زاهية وأرسم على أوراقي مشاهد من الفرح، لكنني أتناساها حين أحتاجها. ما أرسمه لا يرتدي البهجة التي أتمنى حصادها؛ تُبقي الرسومات نفسها خارج متناولي.
حتى رقصتي الليلية التي كانت تحمل الجنون ملّت مني، وأصبح ضجري ضعفًا أثقل كاهلها. غابت المشاعر عني لأنني لم أكرمها يومًا إلا بالظلام، ولم يسمع مني الحزن سوى نغمة يأس متكررة.
اعتدت على نار تأكل داخلي وتحتل كياني. أرهقتني الوحدة ففقدت معالم السعادة. ألقيت بروحي فريسة للأرق ليعبث بي ليلًا، واستسلمت للخمول لينوب عنه في النهار.
بت أرى نفسي ضائعة هامشية، أصطنع حياة تبدو زائفة وأحمل إرادة مغشوشة. جيبي يمتلئ بوصفات للسعادة والابتسام، لكنها مجرّد حبر على ورق لم تنبض يوماً في واقعي.
لكن اليوم قد آن لي أن أخرج من قيد نفسي، أن أنظر إليها من بعيد لأنتقدها وأفندها. ربما أرثي قلمي وأحرق حروفي وأُعرض عن كتبي وصفحاتي. مضى زمن الجمود.
أخشى حينما أنظر إلى نفسي في المرآة، فالملامح تتبدل، والمزاج يعكر صفو الفكرة. أخشى أن أفقد تلك الذات التي عرفتها يومًا؛ أخاف أن تضيع مني بلا رجعة.
هذا اليوم هو موعدي معها. نخرج معًا، نمارس اللحظات ونواجه الذكريات. نقف عند كل محطة ونسأل: كيف كنا؟ كيف تغيرنا؟ وبأي اتجاه مضينا؟
سأكتشف نفسي بصدق اليوم. سنخوض حديثًا مطولًا ينقلب إلى شجار ثم يمر بسلام. ننفصل ونعيد رباطنا وكأن شيئًا لم يحدث. لا مفر لنا سوى العودة لبعضنا.
آن الأوان لنهضة جديدة، لكسر الكآبة ونثر بذور الأمل في الأفق. احتاج إلى كلمات تفيض بالعذوبة لتحييني من جديد، إلى غضب يهز وجودي وينقلني حيث تحرق براكين الحب كل شقاء أمضاني.
ورغم كل شيء، أشعر بحب مكبوت تكلّم صمتي عنه طويلًا وأنكرته بشدة. دفنته عميقًا في شراييني ليبقى أصلًا ثابتًا يتفرع فيني دون توقف أو إدراك.
اقترب بجناحيك واحتوي هواجسي، قيد حريتي بوعودك واحرس عالمي بنظراتك. أمنح نيرانك قوة لتعبر الحدود وصولًا إلى أعماقي حيث بدايتك ونهايتي تتشابكان بلا مفر.
أراك حائرًا بين الجفن والعين، وبين القلب ونبضاته أُخبئ وجودك بصمت. أما روحي وجسدي فقد باتا مرتجفين بك وكأنهما يعيشان عاصفة من القلق والإنهاك منك. لذا سأحررك يومًا، لأدعك تصعد إلى السماء وتسيل مع الغيم وتنسى بصمتك التي أرخت ظلالها عليّ.
