خــواطــر وعبــارات عتـاب

 

خــواطــر وعبارات عتاب



تسكنني رهبة مبهمة، الرياح تضج ولا تهدأ، واللهفة تتوقد في داخلي دون انطفاء. سأجعل الريح رفيقتي، أستلقي على أجنحتها وأسافر إليك، لأجد بين ذراعيك ملاذي، ثابتًا كحرف يحتضنه الحنين وتدفئه الكلمات.


وقفت في منتصف المسافة، أمد يدي للريح أشاركها أحزانها، عسى أن أكسر عزلتي وأنسى وحيدتي القابعة في هذا الفراغ البارد. كأن الريح تحمل حزناً يتناغم مع روحي، ريح فاقدة كقلبي لمطر الشوق ودفء الحب وطمأنينة الأمان. أستغرق في الحيرة؛ الريح لم تهدأ والشوق يطاردني بلا هوادة.


بعيدٌ أنا وأنت أبعد، بعيدٌ أنت عن مدى قلبي وعن عيني العطشى لرؤياك. جسدي يئن لوطأة غيابك ويفتقد دفئًا بدد قسوة هذه الريح الحزينة التي تحيطني. 


تصفعني ريح باردة، تعصف بالمكان كهائج ينوح على ما مضى. وأنا أقف منفصلًا عنها، لا روحي تهدأ معها، ولا أفكاري تسكن قربها. جسدي يرتجف كأن صراخها يعود صدًى قاتلًا داخلي.


أشعر بكآبة متسللة إلى أعماقي، تخطف مني شيئًا كل يوم. أعد نجوم السماء بلا هدف وأحصي النقاط الكامنة بين السحب والبعيد الذي لا ينتهي. هربت من الفضاءات الضيقة، إنها تخنقني، قررت النزول عميقًا، إلى جوف الأرض. هناك، بين الغموض والفناء، قد أتضاءل حتى أندثر وأترك أثرًا منسياً يتحد مع الصمت اللامتناهي.


أهدرت نفسي عبور الزمن، حتى نسيت معنى الوجود. الأزمان تتداخل معي، تحمل زوالي في جيوبها وتتركه ينهمر في أنفاس الساعات المتثاقلة وأرجاء المكان المحطم.


أرى نفسي سائراً درباً غارقًا بلا نهاية، ضائعًا وسط الطريق وسرابه. أتعقب الريح، أبحث فيها عن خطواتي الضائعة وعن نبضات أفلتت مرتعدة من صدري المهترئ.


ذلك النحيب الذي تسكنه الريح يصيبني كالصاعقة، يمزق أوصالي بلا رحمة، يدفع بي إلى أعماق هاوية لا قرار لها حيث تنشب فيّ وحشية الألم الجاثم على أنفاسي.


الطيور تمضي مطلقة جناحيها في فضائها الواسع بينما أقف مكبلًا على أرضي المثقلة. كلمات تنهمر في ذهني لتلامس وجعي وتلتف حول أضلعي وكأنها تغذي تشوشي. بين السماء المشرعة بألوان الأمل والطريق الذي يسحق إرادتي والصمت الذي ينهش أحشائي حقداً، أنا موزعٌ.


لكن رغم كل شيء سأقاوم، سأعيد تعريف معانيكِ من جديد، أصنف تفاصيل ابتساماتك وأطبعها داخل قلبي. وسأظل هنا، في زاوية خفية من نبضك، حارسًا حبنا وعاشقًا مخلصًا. عمر سيمضي بي وبك معًا بلا فراق، كروحٍ واحدة تشارك نبض العشق والوجود نفسه.


سأبتكر لغة خاصة تربط قلبي بقلبك، جسرًا من الوصال بين عيني وعينيك وبين روحي وروحك. هل تتذكّر حُبّي الذي كان يافعًا يومًا؟ كم كان صغيرًا في عمره لكنه كبير في أهميته حينها. أما الآن، فقد أصبحت أنا الصغير أمام حبٍ امتلكني وامتد بداخلي ليشمل الكون بأسره وجميع أعوام العمر. والآن، سأكبر في حبّك، وسأطرق طبول الحرب قبل كل قبلة وبعد كل لقاء. أنت لي وأنا لك، أنت عطشي وارتوائي في آنٍ واحد. أنت خطواتي المترددة في الحياة وبراءتي المكتشفة في الحب. أنت قدري الذي يكبر مع صعودك، وظلي الذي يطاول الغيم بجوارك. أما قربك، فهو الملاذ والمأوى، مسرح أحلامي وموضع أعمق أسراري. قربك ليس سوى قلبٍ منحى الحياة مفهومًا آخر ودربًا جديدًا.


لم يتبقَّ لدي ما يعبّر عنك بالكلمات؛ فقد ضاقت مفرداتي وهربت مرادفاتي. لم تكن الكلمات تعني لي شيئًا كبيرًا من قبل، لكنني في درب حبّك أصبحتُ تائهًا، أعجز عن التعبير. كلماتي باتت مكرّرة، ومعانيها مستهلكة، وجملي خلت من الاكتمال.


تعال إليّ، لا تتأخر. احتضن قلق أفكاري وسكوني المقهور. أغمرني من أنفاسك ما يرضيك، والتف حول عالمي كغلاف يحجب عني بقايا الأشياء التي تفصلني عنك.


نظراتك تأسرني وتسد طرق الخروج جميعها. أفقد معك أصوات كلماتي وألوان مشاعري. أراها تتوهج في عينيك؛ أنا عاشق ذائب، أنتمي للأرض تحت قدميّ وأُزرع في واحةٍ تشرق عليها دفء قلبك وتظلها غيمة قمرك التي تغيب عنها. أنتظر حريتي فقط لأكون أسير شفاه تُطبق على بقايا إرادتي.


حينما أستشعر أن الأرض تذوب تحت خطاي، أدرك أنك قادم نحوي. وعندما ترى ظلالك تتراقص، يهتز كياني بكل تفاصيله. ثوابتي ترتجف داخلي، والعمر يمضي سريعًا وفق توقيت عينيك وابتسامتك.


سألوذ بعزلة، أنا والأفق فيها وحدنا؛ حيث أتدفق مع الصمت، تاركًا خلفي لوعةً زرعتها في قلبي يومًا. سأحتفظ بهذه اللوعة للشوق وأقصّ عليها حكايات حبّك وغيابك كل يوم. سأمررها عبر سنواتي حتى يحين موعد القطاف. وفي ذلك الموعد، سأقدم لك باقة من هذه اللوعة بألوانها الزاهية، لوعةٌ أنت أصلها وأنا مغزاها.


أمضي سنوات عمري متوغلاً في بقايا الماضي، أقف عند حطام أحلام السعادة، مشدودًا بشراهة نحو مستقبلٍ أركض إليه كمن يفرّ من شبحٍ غامض. أطياف الطفولة تلاحقني، وأنا أصرخ برجاءٍ للعودة، لكن الزمن لا ينتظر، والعمر يتلاشى كعودٍ يشعل ويلتهم ذاته، والنهاية تلوح في الأفق.


أحيانًا تراودني لحظات حرية نادرة، أشعر بها كمقطوعة موسيقية تأخذني بعيدًا إلى عالم آخر. أهرب من ذاتي، من قيود الواقع، وأجد سعادتي العابرة فيما يشبه حلماً يخفّف عني وطأة الحياة. لكن بين هذه اللحظات، هناك سقوطٌ نحو هوة مظلمة، كنهاية الشتاء العاصف. أتناثر كأوراق خريفية تحتضن الأرض بلا اكتراث، وكأنني أصارع الموت ذاته في هذا الانحدار، محاولة قوّتي تبدو واهنة أمام عتمته الباردة.


أجرّب طعم الحياة كمن يلتقط فتات الضوء قبل أن ينغلق على ذاته في بحر الأفكار الداكنة. أغلق عينيّ على هدوء الليل وأجد نفسي أسير حلمٍ لم يكن لي، حلمٌ دخلته مصادفة وضاعت عني بوابة الخروج منه. 


لا ضوء يخصني ولا نجمة ترشد مساري. أتوه بين متاهاتي بلا وجهةٍ تعانقني. لحظات الضياع تحيط بي وكأنها تعيدني مرارًا إلى دائرة قلقي وبؤسي المستمر.


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال