خـواطر ارقصي
ولكنك تمتلك روح الثورة، ذلك الدافع الذي يرافقك حيثما كنت وتحت أي ظرف. تثور في قلب وطنك، وعلى أرضك، وبين ذرات ترابها. انهض من خنوعك، وواجه نفسك بشجاعة، كن محاسبًا على أفعالك وثائرًا على واقعك.
أنا ذاك الذي أضاع طريقه فسار في مسار غيره، انتحل حياة لم تكن له، عاشها مقتنعًا بزيفها، حتى بات جزءًا منها. أنا من اعتاد الكذب حتى أضاع نفسه في متاهاته. لم تعد هذه الحياة تشدّني؛ فكل ما فيها بات يبعدني عن ما كنت وما سأكون. أضيع بين ظلال كلماتي وصدى أفكاري.
قلمي صار يخونني، يعلن جفاف حبره وسط السطور، يتوقف في منتصف تعابيري ويلزم الصمت مثلي. يخذلني ثم يعود ليقبع في جيبي، شاحبًا، كئيبًا، مترنحًا بين زلزلة الأنفاس وترقب الانفجارات. نتصارع سويًا نحو نهاية حتما سنواجهها معًا.
ومع ذلك، لن أستسلم. رغماً عني سأبقى مقاتلًا، مجابهًا قبح هذه الحياة وزيفها. ستُرسم نهاية تضع ابتسامة غير قابلة للانكسار على ملامحي. ابتسامة ستنطلق لتبدد قارعة السكون، حتى في تلك اللحظات التي تنذر بدنو النهاية.
أين هي الحياة التي يُزعم وجودها؟ تلك السنوات التي تمر دون أن أنتمي إليها؟ العمر يتفادى حضوري، والصمت يملؤني. فقدت ذاتي في زحمة الصفات الفارغة حتى اندثرت نقاط البداية والنهاية في طريق فيه الضياع هو الحقيقة الوحيدة.
صارت معاناتي مبهمة، لا أدري إن كان سببها ضيق يعصف بصدري أم غضب يرتجف تحت أصابعي. ربما الصمت الذي طال وأصبح وطني الوحيد. حتى نبض رأسي لم يعد كما كان، بل تحول لصوت صفير حادّ اعتدته وألفته، فلم أعد أتذكر كيف يبدو العالم دونه. أنفاسي نفسها تعبت، خفتت وتسللت من حياتي كإشارة لنهاية وشيكة. ومع ذلك لم تعد تلك النهاية تعني شيئًا لي؛ تصورتها مرارًا وتخيلتها بكل السيناريوهات الممكنة، ولكن مع تكرار الفشل، بات حتى تصور نهايتي محكومًا بالفشل.
أين ترقصين إن لم يكن أمامي؟ أترقصين أمام عشق سري مبطن، أم أمام من يملكون بضع ساعتهم الأخيرة؟ تتحلين بحنان مؤقت وزائف أو تنسين أولائك الجالسين قربان الزمن؟
تعالي وارقصي معي، فأنا أسيرٌ لتفاصيلك؛ لتعقيدات ثوبك وأسرار جسدك المنحني كأغنية سرية. تعالي نرقص سويًا حتى أذوب بك وتنهمرين بداخلي كطوفان. كوني عالمي ومساحتي الضيقة والرحبة معًا. اجعليني أكتمِل كقمرٍ يسطع ليرقص مع الليل. وبعدها اذهبي وارقصي أمامهم إن شئت، لأتراجع وأتناقص وأختفي قطعة قطعة.
أين تأخذين خطواتك إذا لم تكن نحوي؟ هل تراقصين من سُلبوا المشاعر أو أولئك الذين فقدوا الحب؟ فهؤلاء لا يرون منك سوى الجسد والشهوة. أما أنا، فشهوتي كانت حبًا، وحبك هو قهوتي التي أحتسيها كل يوم. سواء ظهرتِ أو تواريتِ، أنتِ موجودة داخلي، محفورة في عميق روحي، وفي أنفاس وقتي ومسارات حياتي.
أين ترقصين إن لم يكن أمامي؟ هل تكشفين عن ذاتك لهم، أم تقنعينهم بأن الحب يكتفي بالأقنعة والسطحيات؟ أما أنا فأعلم أن ما تحت ملابسك قلب ينبض بحبٍ لا يتكلم عنه أحد، هو حبي الذي اختبأ هناك، هو رؤيتي التي تستتر داخل عينيك، وجسدي الذي يسكن بين شفتيك. أنا أكتمل بك، ومن دونك أحس بالكمال منقوصًا.
اقتربي إلي ببطء، اجعلي كل لحظة تعبّر عن شوق وانتظار. اسمحي لجسدك أن يعانق لحظاتي، دعيني أطبع القُبل على أرجائه، ثم تمهّلي وابتعدي، دعيني أتلذذ برغبة مؤجلة، وعودي لتختفي مجددًا. أريد أن أعيش في انتظار عودتك كل يوم.
تعالي وارقصي لي. أنا حضورك، أنا متابعتك، دعيني أستخلص من أناملك شهد الحياة ومن جسدك رحيق اللذة. ارقصي لي، فأنا أعشق الرقص وأحب طريقتك في التعبير به.
سأصير يومًا رمادًا متبعثرًا على سجادة قديمة، تهتز تحت أيادي عجوز وحيدة تبحث عن النظام في فوضى الغبار. ستخطفني ريح متنازعة تفرقني بين الأمكنة، لكنني سأظل في ذلك الركن العالق. سأرفض الاستسلام ساعيًا لأرض جديدة تُعيد لي الروح، وأنتظر الشتاء لأرتوي وأتحول من جديد. ربما أصير زهرة أو شجرة صامتة تعيش زمنها بوقار حتى النهاية.
سيأتي الجفاف، وسوف أسقط على العشب كقطع خشب يابسة بانتظار يد حطّابٍ تلتقطني. تلك اليد ستطفئ بقاياي في وهج ناره ليستدفئ بها في ليله الطويل. وفي رمادي سيبقى أثر.. لن ينتهي.
ستمضي حياتك مُثقلًا بفقدان أجزاء من روحك البريئة. ستلتئم جراحك تدريجيًا لكنك لن تعيد ما انكسر. سوف تتعلم التكيّف مع الناقص وستحتفل مجددًا بالفرح رغم الحزن الكامن داخلك على شيء منك مات دون أن تعرف ما هو تمامًا.
في لحظة الحقيقة، ستجد العائلة قبلك بأمان منتظرينك لتُطمئن قلوبهم. ستعانق أمك بحنو لتخبرها أنك بخير رغم الألم الذي لم تدركه بعد. ستنتهي بصحبة الأطباء الذين يفتشون عن جروح خفية بينما تسعى أنت لتبدو طبيعيًا أمامهم وبين أحبابك. ستبتسم وتقول أنا بخير.
سيأتي الأحبة والمهنئون يسألون عن حالتك فترحب بهم بود، متجاهلًا ما يمسّ نظرك المشوش أو جسدك المثقل بالخدر. ستتناول آخر كوب من القهوة، تغلق الباب بأدب بعد رحيل الضيوف، وتظاهر بالنعاس حتى تذهب أمك لتنام وتطمئن عليك. وفي غرفتك وحيدًا، تلقي رأسك على الوسادة، تشعر بجسدك ينهار قطعة قطعة وسط غرق دموع لا تتوقف. لم تمت... لكنك تُدرك تمامًا أن شيئًا بداخلك لم يعد كما كان وأن جزءًا منك قد مات.
ستستعيد وعيك تدريجيًا لتسمع صرخات بعيدة من غرباء لا تراهم. ستلاحظ ذلك الرجل الذي يجهد لفتح باب سيارتك، محاولًا إنقاذك. ستشكره بحرارة وتسأله عن اسمه لتدعوه بالخير إذا نجوت. لكنك تدرك داخليًا أنك لن تتذكر اسمه بعد لحظات. ستتجه بهدوء إلى ركن الطريق، تنظر إلى سيارة الإسعاف القادمة لنجدتك، وستحبس دموعك المزدحمة بينما ترتسم على وجهك ابتسامة خفيفة، مؤكدًا لنفسك أنك بخير.
قد تنطلق بسيارتك ذات ليلة ورأسك مليء بالخطط لما تبقى من المساء. تشغل موسيقاك المفضلة وتنطلق في طريقك بابتسامة واثقة تعبر عن رضا داخلي. سيارتك بالنسبة لك هي أكثر من مجرد وسيلة نقل، إنها بيتك المتنقل وملاذك الخاص.
لكن في لحظة خاطفة، يصدمك الأمر: شاحنة بأضواء مطفأة وسائق غير مكترث. ستكتشف بحذر أنك ما زلت على قيد الحياة. تتحسس جسدك باحثًا عن مصدر الألم، تملؤك الرهبة ثم تسعى جاهدًا للحفاظ على وعيك. تمد يدك نحو هاتفك لتتصل بوالدك، أو ربما تتلقى اتصالًا من والدتك بصوت متهدج وقلق يسألك: هل أنت بخير؟ ستجيب بصوت متردد: لا أعرف. ثم سينطفئ كل شيء تدريجيًا، وأنت مطمئن وكأنك قد أسلمت حملك لوالدتك، وكأنك قد أنجزت ما كان يجب عليك فعله، وتركت الدنيا تتولى الباقي.
أنت أكبر بكثير من هذا العالم؛ أوسع وأعمق مما يمكن لأي شيء أن يحتويه. أنت أطول من العمر وأغنى من الأسرار التي تُحاول أن تُخفيها. أنت عالمٌ متكامل في حد ذاتك. في وجودك تُشرق حياتي وتُنسج كلماتي حبًا ودفئًا، ومع كل أفول تغيب كلماتي عني تاركةً وراءها جفاء. أنت كل تفاصيل عالمي، كل نَبضة وكل كلمة وسكون. أنت عالمي الذي يستهلك ذاته لينبض فقط ببقائك حاضرًا، يختفي في حضورك لتبقى أنت وحدك المحور والقلب لكل شيء.
