خواطر قويه حزينه
مختلفٌ أنا عما كنت؛ أصبحت شخصًا خافت الشعور، لم تعد الأشياء البسيطة تثير فرحتي، ولا العظيمة منها تجذبني. حقًا، لم أعد أعرف نفسي.
كيف تغيّرت؟ وكيف انقلبت أحوالي بهذا الشكل؟ لن أزعم أنني أجهل السبب. سنةٌ مضت عليّ، عشت خلالها وسط براكين وأعاصير أرهقتني، خضت ما يفوق قدرتي، وتحملت... نعم، سعيد بكوني صمدت، ولكن لم ألحظ أنني خلال تلك المعارك كنت أفقد نفسي شيئًا فشيئًا. هل هذا هو النضج؟ هل هذه آثار التقدم في العمر؟ هل تموت الشخصيات داخلي لتحلّ محلها شخصيات أخرى؟
قهوتي تغيّر طعمها، وصوتي وهو يغني فقد طاقته. هل هذه حياتي الآن؟! لم أعد أبحث عن إجابات لأسئلة لم تعد تعنيني. بل لم أعد أسأل أصلًا. وقهوتي، لم تعد كما كانت. أحاول إقناع نفسي بالسعادة بينما السواد ينمو سرًّا في أعماقي.
شكل حياتي اختلف، مشاعري صارت خافتة الصوت. مذاق القهوة صار حادًا ومريرًا أكثر مما ينبغي، والنشوة... غادرت حياتي بلا عودة.
انطلقت خواطري في رحلة ليلة حالكة، سواد في أركان قلبي، وضباب كثيف في عقلي. تضغط الأفكار على بعضها، والمشاعر تتصارع. وسط كل هذا، أنا ضائع؛ حائر بين المنطق والتوازن.
أنا الآن مختلف. لم يعد قلبي ينبض بنفس القوة السابقة. أغنياتي المفضلة لم تعد تطربني أو تحرك مشاعري كما قبل. إنني في غربة نفسية؛ حالة موحشة تغرقني تحت الظلام المستبد. أتنقل بين الزوايا والدهاليز بحثًا عن جديد يحمل فرحًا أو دفئًا يكسر عزلتي المتزايدة.
صامدٌ ظاهريًّا لكن داخلي صامتٌ وكاتم. أحبس بين أنفاسي وحشًا تعلم التعود على القمع والهدوء المستنزف.
لماذا أدّعي الثورة؟ ليست شيمتي التمرد ولا من طبعي العنفوان. من أنا لأثور على داخلي؟ ومن أنا لأهرب من أعماقي؟ أنا فقط صمتٌ يذبل رويدًا حتى يتحوّل إلى عدم. أنا هدوء يواجه صخب العالم بلا مقاوَمة.
ما لي وللحزن؟ كأنني صرت تظلله بدلًا من مبارحته. ألجأ إليه كلما ضجّ خاطري، أضمه كأنني أمواج تتكسّر على صخور يوم عاصف.
ما لي وللأرق؟ يبعد النوم عني كما لو أن الوسادة تنفر مني. أهرب من نعاس يوشك أن يسحبني لعالم غريب، غريب عن كل ما له ألفة بي.
لا أريد أن أنهض؛ أرغب فقط في الاستسلام. ربما هذا الاستسلام يقربني من النهاية التي انتظرتها. دعني أشعر بلذة الوصول أخيرًا. احتفال بسيط برقصة أخيرة... ذلك كل ما أتوق إليه.
لا تقف ضدي، ضَع أقلامك جانبًا وامضِ بعيدًا. لا تقلق عليّ؛ ستعود يومًا لتدوّن قصتي عندما تُصالحك روحك وتلاقيكَ الكلمات مفعمة بالحياة. لا تخشَ عليّ؛ حتى بعد حزنك الذي سيمحو ما تبقى فيك من أمل ستدرك أنك صحبت ذات يوم من اختار انتهاء طريقه بهدوء مستسلمًا. ستتعلم شيئًا: أن الخوف من النهاية هو بحد ذاته نهاية مريرة. الآن، لا تعاندني. فقط دعني خلفك وواصل طريقك بسلام.
لا أحتمل هذا العمر، أثقلني ضجيج الأيام وصخب الحياة. الانتظار يمنحني شعورًا بالاختناق، بطء الثواني وطول الساعات يسرقان مني الراحة، لكنني لا أخشى النهاية. إنها الطريق التي تُتعبني، أما الوصول، فهو ما يريحني.
دع أقلامك خلفك واتبعني. رحلتك لن تحتمل التفاصيل من الآن فصاعدًا. ألقِ مشاعرك بعيدًا وانصفني، ففي معركتي لن أستمر طويلًا. تمسّك بكلماتك واصرخ باسمي كلما حاولت النهوض من جديد.
لم أكن يومًا قريبًا من الموت كما أشعر الآن. أجد ظلاله عند كل زاوية، خلف كل منعطف، وفي كل طريق. حتى المسارات الواضحة باتت مخيفة، وكأنها تدعو الموت لأخذي.
أنا خائف… خائف من كل شيء ومن الجميع. الأشياء والأشخاص جميعهم باتوا سواءً في عيوني. الموت يبدو كأنه يحيا فيهم. لم أعد أبحث عن مهرب، ولم أعد أرغب في الهروب. أطمح فقط للانتهاء… للاختفاء… للهروب من هذه الرائحة التي لا تغادر أنفي. أريد أن أنسى... علّني أصادف نفحةً جديدة، تُزيل هذا العبء وتُنسيني صمتي الذي يستبد بي يومًا بعد يوم.
ليلة تلو الأخرى، يهزني أرقٌ فتاك ويهدم شيئًا داخلي. الموت يخيم على كل ركن، يعبق في الهواء مع اليأس والخذلان. فكرتي الواحدة والمتكررة هي الموت... لقد تكسّرنا أمامه. كسر جبروتنا الذي صنعناه يومًا.
هؤلاء المارة في الطرقات، يتحركون كالأشباح. بعضهم يصرخ بغيظ، والبعض يغني متجاهلًا حقيقة ما يعيشه، وآخرون يقودون بصمت مليء باليأس. وأنا؟ أنا أمضي بلا هدف، أصارع هذا الكم الهائل من الأفكار: خوفي من الموت، خوفي من الحياة، وخوفي مما يحمله الغد... كلها تعبق في أنفاسي وكأنها أثقل مما أستطيع حمله.
أنا إنسان فارغ، بلا مكانٍ ولا وطن. أبحث عن ذرة أمل وعن زمنٍ فقدت فيه ذاتي. أدرك أني لن أعثر على شيء… حتى صوت ضحكاتي القديمة ذهب بلا عودة، وكأنها تآمرت مع العالم لتنتهي للأبد.
روحي تتآكل شيئًا فشيئًا، أغيب في عالم مظلم خالٍ من أي مظهر للحياة. كل الرغبات تموت داخلي: الرغبة في الحياة، في الابتسام، وحتى في المحاولة الجديدة. بداياتي تولد فقط لتفنى على الفور، كما لو أن رغبة الاستمرار هربت منها أيضًا.
أنا لست بائع أحلام، أنا فقط أمنحها لمن يقدّر قيمتها. لكنك أنت… لا. لا أرغب أن تأخذ شيئًا مني. سأمنح حلمًا للذي يقف إلى جانبك، لأنه يشبهني بطريقة ما... تعال أنت يا من هناك! خذ هذا الحلم مني؛ إنه يناسبك لأنه يشبهك… يشبهنا نحن.
أوه... حسنًا. سأغلق هذه الخزنة الآن. انتهى الوقت اليوم. عودوا الأسبوع القادم؛ قد تجدون أحلامًا جديدة لم تخطر على بال أحد من قبل. ستتفاخرون بها حين تمتلكونها… فكّروا بها خلال العيد المقبل!
أنتم تبحثون عن أحلام ضائعة، فتظنون أنني سأمنحكم منها ما يعوض فقركم. يا لكم من محرومين بلا طموح، تتطلعون إليّ وكأنني مصدر الخلاص. أما أنا، فلن أشارككم سوى أضعف الأحلام وأقلها نفعًا، أما ما يستحق البقاء فسيظل لي وحدي.
اقتربوا إذا شئتم، لأفتح لكم خزائني العتيقة المليئة بالأوهام. اختاروا منها ما يروقكم، لكن لا ترفعوا سقف تطلعاتكم كثيرًا. إن لم تجدوا اليوم ما يشبع رغباتكم، انتظروا، فالأسبوع القادم يحمل المزيد مما قد يغري نفوسكم الجائعة.
أما أنت، فلا تنغمس في محاولة الفوز بها وهي تلهث خلفك. لا تتوقف. ضع حدًا للعجز الذي تقاومه هي برفقتك. سلطانك أنت، اختَر طريقك بعيدًا عنها. أهملها دون أن تلتفت، فهي تعرف ضعفها حين تغيب عنها قوتك.
في هذه العلاقة بين السلطان والشعب، تذكر أنك الركيزة الحقيقية. حين تنتفض وتثور، تصنع الفرق. لا تخضع للمكر ولا تلن للوعود الكاذبة. احذر التردد، لأن السلطة تتلون وتتجدد. أما أنت، فإن صدق قلبك وحرصت على كرامتك، سيظل لك صوتك القوي وحدودك الراسخة.
