خــواطـر طـويـله حزينه
وهكذا فهمت أن الفراق ليس دائمًا انتهاءً، بل بداية جديدة لوجع يأخذ أشكال حياة أخرى نعيشها رغم الغياب. يصبح رحلة بلا خيار، نسير فيها وأيدينا مشدودة إلى قلوب أثقلتها الذكرى، كمسافرين أبديين بلا ميناء يدلهم على النجاة.
وكلما عزمت على الرحيل، اعترضني ذلك الصوت الأبدي المنبعث من أعماقي: قلبي. هذا القلب الذي حمل حبك حتى أنهك خطواته. حاولت أن أضعه جانبًا، أن أخبئه في حقيبة كبقية الأشياء التي قررت تركها خلفي. لكنه بقي دائم الرفض، أكبر من كل الحقائب وأشد صلابة من كل الأبواب المغلقة. وكأنه يعاندني بعنفوان طفلٍ يقول: لن أغادر...
ما زال حبك قائمًا في ذاكرتي، كطيف يأبى الرحيل، وكأنشودة قديمة ترددها أروقة الروح رغم صمت العازف. لم تستطع ضوضاء السنين وصخبها أن تطفئ أثرك. كنت أعتقد أن الأيام بقدرتها على تغيير الوجوه وتبديل الأماكن ستتمكن من اجتثاثك من أعماقي، لكنني أدركت أن بعض الآثار خُلقت لتبقى، وأن بعض الأرواح تظل حاضرة فينا حتى بعد غياب أصحابها.
كم مرة حاولت لملمة شتات نفسي، وأعددت عدتي للرحيل مثل غريب يحزم متاعه في صمت حزين. جمعت ذكرياتي المهشمة في حقيبة صغيرة، ووضعت أحزاني المرهقة في أخرى، ثم سعيت جاهدة لإغلاق صندوق يحمل آثرك بإحكام. أردت أن أهرب إلى أرض لا تحمل صوتك ولا ملامحك، حيث لا تذكرني الأماكن بعينيك، ولا الضحكات بوجعك.
يا نبض العمر، منذ لقاءنا الأول كانت خيوط الوداع تتسلل خفية بيننا، وكل لحظة دفء كانت تُغزل معها مسافات البُعد بيد باردة. هذا الفراق لم يكن مفاجئًا، كان قدرنا المستتر منذ البداية.
دعنا نترك الوداع يُكمل دورته، دون محاولات مقاومة. هذا النسيج الممزق لن يلتئم مهما اجتهدنا في ترقيعه، ولن يجتمع قلبان إذا كان نصيبهما الفراق. فلنرتدِ عباءة الفقد بسلام، ونمضي كلٌ في طريقه، نحمل في قلوبنا أصداء الضحكات التي عاشت معنا، وبقايا أحلام انهارت كأوراق الخريف اليابسة.
سرنا جنبًا إلى جنب حين جمع الطريق خطواتنا ذات يوم، كأنما خُلق الدرب لنا وحدنا. تماهت مشاعرنا كما تتقاطع ظلال الأشجار عند المغيب، لكنها عادت وتجزأت بعودتها إلى جذورها. وعودنا المبهجة لم تكن سوى وهم صدقناه ببراءة العاشقين، وأحلامنا كانت هشة كطائرات ورقية تتلاشى عند أول هبوب ريح.
ضحكنا على أنفسنا بكلمات حالمة، وتظاهرنا بأنها تكفي لنغفل عن قسوة الحقيقة. لكن النهاية كانت دائمًا قريبة، تترقب اللحظة المناسبة لتنقض علينا بالفراق. وقد حدث ذلك بالفعل؛ رحلنا مثقلين بجراح جديدة، مجبرين على ارتداء أكفان رمزية لمشاعر ماتت في داخلنا، لتُدفن معها ما تبقى من الحلم القديم.
عدنا للمسير معًا على الطريق نفسه مرة أخرى، وكأنما جهلنا أن المصير لا يتغير. تقاربنا بخجل، ضحكنا بخوف، وسمحنا للأمل بالتسلل إلينا مجددًا. ثم تكرر المشهد المؤلم، افترقنا من جديد بالجرح ذاته. وكأن هذا الطريق لا يستطيع سوى أن ينتهي بالنقطة ذاتها.
ولكن الشتاء امتد أطول مما توقعت، فلم يأتِ الربيع، ولم تزهر الأرض، ولم تعُد الطيور. كان فصل الغياب أسرع من جميع الفصول، يبسط أيامه وكأنها دهور بلا نهاية. ومع كل يوم يمضي، كنت أشعر أن الحنين ينبت في قلبي وحده، بينما أرضه بقيت صامتة، لا تسمع ولا تستجيب.
عندما أدركت الحقيقة متأخرة، فهمت أن بذرة الحنين كان ينبغي لها أن تُنثر في الطرقات. هناك حيث تتغذى الطيور المهاجرة على ثمارها فتعود إلى أوطانها بحنين متجدد. أما هو، فقد كان غريبًا بلا وطن يأويه في قلبي، كما كنت أنا بلا وطن أرسو فيه داخل قلبه.
في الحب كنا مجرد عابري سبيل، نمر على الحياة كما يعبر غريب مدينة لا يبحث فيها عن إقامة ولا يحمل معه زادًا ثابتًا، مكتفيًا بما تهبه الصدفة من لحظات عابرة. تقاسمنا مشاعرنا كما لو أن العطشى يتقاسمون قطرة ماء وسط صحراء قاحلة؛ لهفة يتداخل فيها الخوف مع الفرح المرتبك. لم نقترب بما يكفي، ولم نبتعد كثيرًا؛ كنا في تلك المسافة الرمادية، كالغرباء الذين يتبادلون الحديث بمحطة قطار، وهم يعرفون مسبقًا أنهم سيرحلون باتجاهين متعاكسين. ومع ذلك، يصرون على ترك أثر خفيف من الدفء خلفهم في ذاكرة واحدة مشتركة.
لكن فجأة اختفى، تاركًا إياي في منتصف الطريق بينما رحل إلى غيابه كما يرحل القمر إلى حيث لا يستطيع البحر الوصول. انتظرته كانتظار الربيع لعودة الطيور، وكانتظار الليل لنجمة تائهة. عاد بعد حين ثم غاب مرة أخرى، وكأن حضوره عنده ليس سوى استراحة خاطفة بين غيابين طويلين.
جلست أفكر مليًا، محاولًا إيجاد طريق يعيده إلى دفء الهوى الذي بدأ يخفت في داخلي. لاحت أمامي فكرة كأنها هبة من الحزن ذاته: أن أزرع بذور الحنين في أرض قلبه. جمعت تلك البذور من ذخائر ذاكرتي، سقيتها بالدموع التي أعياها الانتظار، ثم غرستها في أعماقه التي ظننتها خصبة. ظللت أنتظر طويلًا؛ أحدق إلى الأفق أملًا بأن تتفتح زهرة اللقاء بعد شتاء شديد الوطأة.
الحياة هكذا تبدو: أن نشتهي حتى الوهم، وحتى الجنون، وحتى ما يحرقنا بلهيب نارٍ لا يهدأ. الحياة أن نحب حتى وإن كان حبنا ناقصًا ومرتبكًا. قد يكون الحب قليلًا أو مشوهًا بطبيعته، لكنه يبقى حبًا يحركنا ويجرفنا نحو الآخر. ومتى يبدأ الحب؟ يبدأ عندما نهدم جدران الذات لنمد أيدينا خارج تلك الحدود. فحين نعطي نحن يصبح ما أعطيناه ملكنا حقًا، وما نخشى تقديمه يظل مجرد رغبة معلقة في فضاء النفس.
حين يلتمع شخص في عينينا، ليس الأمر مجرد انجذابٍ عابرٍ أو نزوة مؤقتة؛ بل هو رجع بعيد لطفولة قديمة ولدفء غامض افتقدته الروح يومًا ما. تلك الرغبات تكشف أننا لم نغادر طفولتنا بشكل كامل. الطفل ما يزال مختبئًا داخل أرواحنا، يمد يديه نحو ما حُرم منه ذات يوم. هناك أجزاء منا تظل معلقة في البدايات مهما تقدمت بنا السنوات، تتبع أحلامها الضائعة كما يركض طفل مسرعًا وراء فراشة يصعب إمساكها لكنها تأبى أن تختفي من أفقه.
ومع ذلك، تظل الرغبة صادقة، ولا يخون الحب جوهره. هما في الوقت ذاته جرح وشفاء، لعنة ونعمة. حتى في ارتباكهما وكسورهما، يظل لهما قيمة تستحق التجربة. يكفي دفء الحب العميق الذي يتردد في الصميم، يكفي اضطراب الرغبة المتوهج، مثل زهرة وحيدة تنبت في قلب صخر قاحل، رغم يقيننا بأنها ستذبل مع أول هبة ريح. تلك الزهرة، بزهوها وسرعة زوالها، تجسد جوهر الحياة بمعناها الأصدق.
لكن الحب، كالرغبة، ليس دائمًا نهرًا صافيًا. فنحن نبقى عطشى له حتى ونحن نرتوي منه. نحب ونخاف، نعطي بيد ونقبض بالأخرى، نرتجف بأنانية لا ندركها. نأتي إلى الحب طالبيْن أكثر مما نحن مانحيْن؛ نتوق أن نرى انعكاس صورتنا في عيون الآخرين أكثر من أن نكون مصدر نور لهم. لهذا السبب، يذبل الحب حين يُحبس في اتجاه واحد، تمامًا كما تذبل زهرة تُحرم من أشعة الشمس.
الرغبة ليست كائنًا مكتفيًا بذاته؛ إنها تيار دائم الجريان نحو أفق بعيد، سواء كان وهماً مستقبلياً يلوح أو رماداً لحلم قديم. كل رغبة تحمل في أعماقها سؤالاً مجهولاً حول هويتنا وموقعنا في هذا الكون. هذا السؤال ربما لا يحتاج إلى إجابة بقدر ما يحتاج إلى أن نسمح له بالتحليق حول أرواحنا كفراشة قلقة، توقظ من سباتها ما طال به الغياب. فالرغبة، في جوهرها، ليست سوى رغبة الحياة ذاتها في الانبثاق والتجسد. ومن كل رغبة جديدة تنشق ألف حياة صغيرة، ومن كل نزوة يتفجر نهر من المعاني. وأخيرًا، تُفضي كل الرغبات والمشاعر إلى مصب الحب، البحر الذي تستمد منه الأنهار وجودها.
ومع ذلك، يبقى الحاضر هو المرفأ الأصيل الذي ينبغي أن نتعلم الإقامة فيه. هنا تبدأ أعمق التمارين: أن نبقى ساكنين في لحظة الحاضر، نطرد ضوضاء الأمس وأوهام الغد دون طلب أو خوف. نصغي إلى نبض الحياة كما يتدفق بلا عجلة، وفي هذا الإصغاء يذوب "الأنا" كما تتلاشى قطرة ماء في النهر العظيم. حينها نصبح جزءًا من ذلك السكون الكبير.
