إنها تلك المشاعر الحزينة التي ترافق لحظات الفراق، تتسلل من أعماق القلب مثل دموع خفية، تعبر عما عجزنا عن قوله بحضور من نحب. تحمل عنا أثقال الذكريات وأوجاع الفقد المريرة، وكأن وقع الكلمات على الورق يفتح نافذة صغيرة لنتنفس في وجه اختناق الرحيل. نكتبها آملاً أن تكون بلسمًا لجراحٍ لا تلتئم، أو مرآةً تعكس بصدق ما نحمله داخلنا من مشاعر دفينة. وربما، تمنحنا درسًا في أن يكون الفراق فصلاً آخر من كتاب الحياة، وأن الحب الذي يحتل الذاكرة قد يكون أحيانًا أعمق وأصدق من حضوره في الواقع.
الفراق عن شخص هو جزء من روحنا ليس أمرًا سهلًا. إنه أشبه بفقدان قطعة من القلب لا يمكن تعويضها. كثيرًا ما تصطحبنا الحياة إلى مفترقات لم نخترها، وتضع أمامنا أبوابًا موصدة بلا سبيل للعودة، فتتركنا مجبرين على قول الوداع، حتى وإن انكسرت أرواحنا في تلك اللحظة. وهناك نجد أنفسنا وسط بحر هائج من الأحزان، أمواجه عاتية، ورياحه قاسية. فلا نجد عزاءً سوى الكلمات التي نعبر بها عن ألمنا، نصوغها كخواطر حزينة علها تخفف من حدة الوجع، وتتيح لنا شق نافذة للبقاء.
كنت يومًا ملاذي وجنتي، بذرة الأمل التي زرعت بداخلي. لكن مع الوقت، تحول دفء الحلم إلى صقيع مؤلم يلسع كل محاولة تقرب منك. لم يكن في قلبي مكان إلا لك، ولم يخطفني عنك حب آخر أو وجه مختلف. ما أفقدني إياك كان صمتك الذي طال وبرودك الذي تسلل إليّ بهدوء، ثم لامبالاتك التي باتت مثل سكين يغرز ببطء. ومع كل ذلك، أخذ الحزن منك مكانًا أكبر حتى صرت غريبًا بين مشاعري.
أعي أن غيابي قد ترك جرحًا فيك، وأن بين أسئلتنا غموضًا لن يبدده الزمن بسهولة. لكنني أؤمن أن بعض الفراق يحمل في طياته نوعًا من الرحمة. أحيانًا، يكون البعد أصدق صورة للوفاء. لهذا طلبت منك أن تسامحني… سامحني لأنني اخترت الغياب بدافع الحب وليس الكراهية. وسامحني إذا ظل اسمي يتردد بين نبضات قلبك كما يتردد اسمك في دعواتي وصلواتي.
رحلت لأنني أردت إنقاذ ما تبقى من حبنا. غادرت قبل أن يموت هذا الشعور الجميل ويتحول إلى رماد يحمل الكراهية. أردت أن أحفظ في قلبي صورة نقية لك، أن يبقى حبك طاهرًا غير مشوه. رحلت وما زلت أحبك، لكن قررت الابتعاد كي تبقى ذكرياتنا مشرقة ونقية كما كانت يوم بدأت.
أعتذر عن رحيلي المفاجئ، عن غيابي الذي انطفأ فجأة في عينيك دون أن أترك مجالًا للسؤال أو مجرد عتاب. لم يكن الأمر هروبًا بقدر ما كان استسلامًا لإرهاق أثقل روحي، حتى لم تعد قادرة على التحمل. أعلم أنني في يوم من الأيام وعدتك بالبقاء إلى جوارك للأبد، وأني قلت لك إن لا شيء في هذا العالم يستطيع أن يفرقنا، وكل كلمة خرجت مني حينها كانت نابعة من الصدق. لكنني لم أكن أعلم أن الوعود أحيانًا تنكسر تحت وطأة الخيبة، وأن القلوب، مهما أحبّت، قد تنزف حتى تستنزفها الإهمال والجفاء.
انزلقتُ إلى قاع الماضي الذي تملؤه فقط أصداء أيام مضت، حيث الحياة لا تسكن إلا في الذكريات، وتحديدًا ذكرى ابتسامتك التي ما زالت تطاردني بكل تفاصيلها. الألم المستوطن صدري يمزقني كلما حاولت التقاط أنفاسي، وكأن قلبي يتحطم مرة بعد مرة عند مواجهة الحقيقة المؤلمة: أننا لن نلتقي مرة أخرى.
أسير وحدي في هذا العالم الذي امتلأ بأشواق ضائعة، وكلمات حب توقفت عند حدود البوح، ومشاعر لم تنطفئ رغم أمواج الفراق العاتية. كان الوداع بداية طويلة لعذاب لا يعرف الرحمة، وألم يصعب الشفاء منه.
عندما قررتَ الرحيل، كانت خطواتك ثابتة وواثقة وكأنك تحمل يقينًا لم أمتلكه أنا. أما أنا، فقد تركت نفسي معلقة بين أمل لم يتحقق ويأس فرض نفسه بلا استئذان. رحلت أنت، لكن حبك بقي داخلي متشبثًا بأعمق جذور لا تقوى يد الزمن على اقتلاعها. وحتى حين ودعتك ودموع عيناي تغرقني، أدركت جيدًا أنني على أعتاب معاناة لا حدود لصبرها، لكنني كنت أعلم أيضًا أنه لم يعد هناك ملاذ آخر سوى الفراق.
لم أكن أدرك وأنا أعبر تلك المرحلة المظلمة أنني سأغرق تمامًا في عمقها، بلا جناحين يرفعاني أو يد تمتد لتنتشلني منها. سقطتُ في هاوية الفراغ القاسي الذي صنعته الوحدة، وملأته بذكراك التي لم تغادر زوايا حياتي. كل ما يحيط بي يوخز ذاكرتي بك: المقاعد التي خَلَت من وجودنا، الأرصفة التي جمعتنا ذات يوم، وصوت المطر الذي لطالما كنت تحبه… كل شيء أصبح انعكاسًا لشبحك، وكل مكان تحول إلى زنزانة تسجن صورتك بداخلي.
أشعر بروحي مكبلة بقيود خفية، صنعتها يدك يوم انسحبت من عالمي. وكأنك حين رحلت، أخذت معك مفاتيح حريتي وألقيتني وسط دوامة من الحيرة والفراغ. عيني تائهة تبحث عنك في الأفق البعيد، في كل ظل مارّ، في كل غيمة مسافرة، وحتى في بريق النجوم الذي يبدو للحظة ثم يختفي. الأفق يزداد كآبة، ومعه يغرق قلبي في حزن عميق يعمّقه انتظار لا نهاية له.
ورغم الألم الذي غرس جذوره داخلي، ما زلت أتشبث بأمل بعيد. لن أستسلم لما تركته من جراح ولا لسنة الغياب. سأظل وفيًا لوعدي، متمسكًا بإيماني بأنك ستعود ذات يوم من قلب الغياب، حتى لو طال الزمن. سأقاوم الوحدة التي تطوّقني كما لو كانت إعصارًا لا يرحم، لأن يقيني الراسخ يخبرني أن اللقاء ليس مستحيلاً، وأن الحب قد ينبعث من رماده يومًا مهما بدا محطمًا الآن.
لم يترك لنا الوقت فسحة لابتسامة أخيرة، ولا عناق يُخفف وطأة الفراق أو يُبقي طيفك دافئًا في رأسي، ولا حتى قبلة واحدة تحمل عزاءً شحيحًا للقلب. غادرت كريح عاتية أطاحت بآخر دفء كنت ألوذ به، تاركًا وراءك وحدة حارقة وذكريات متكسرة أبحث عبثًا بين أنقاضها عن بصيص أمل شارد. لم تترك لي سوى غصة ثقيلة تسكن القلب ومرارة تُرافقني كظلٍ لا يفارق مهما مرّ الزمن.
أحلامي التي كانت ذات يوم أشرعة تقطع أمواج الأمل، تحطمت على صخور الفقد ولم تشفع لها الرياح لتعود. تحولت إلى قطع مبعثرة تنبض وجعًا في كل ليلة، حتى صار صداها أنينًا يوقظني بلا رحمة. ومع غيابك، اجتاح خريف الحب حياتي، سلبها بهاء الألوان وأسقط أوراق الأمل شيئًا فشيئًا. الآن، لا شيء سوى شجرة عارية تقف وحيدة في مواجهة برد الغياب القاسي.
الحيرة تخنقنا كعباءة ثقيلة والأفكار تتراكم كأسئلة بلا أجوبة تُدوي في أعماقنا. وحده الصمت يصوغ الردود، وحده الليل يحتضن وجعنا الساكن، ووحده الفراق يبتسم ساخرًا من ضعف الحب أمام ضربات الزمن القاسية.
واليوم ننطق كلمة الوداع بألم خفي يشبه نزف الروح. ليس وداعنا هذا كأي وداع آخر؛ بل هو مثقل بالحيرة، مشبع بدفء الدموع المرتجفة ولهيب الشوق الذي لا يخمد. في النظرات الأخيرة نكتشف عجز أعيننا عن إخفاء انكسارها، حيث تنساب دموع الفراق وكأنها توقيع القدر على نهاية لم يخترها قلبانا، بل سطرها الزمن بحبر لا يُمحى.
نعلم جميعًا أن لكل بداية نهاية، وأن الخلود على هذه الأرض مجرد وهم. ولكن ما لم نتوقعه كان سرعة النهاية، أو قسوتها التي باغتتنا دون إنذار. والآن، وقد فرضت النهاية نفسها علينا، نجدنا مغمورين بأسئلة بلا أجوبة: لماذا توقف كل شيء عند ذاك اللحظة دون غيرها؟ لماذا انطفأت النيران التي ألهبت قلوبنا يومًا؟ أين اختفى الفرح الذي أغرق أيامنا، وأين ذهبت البهجة التي كانت تعانق تفاصيلنا؟ والأمل... ذلك الشعاع الذي وعدنا بحراسته، إلى أين تبخر؟
نحن اليوم نقف عند عتبة الوداع، أمام فراغ صامت يفتح ذراعيه لنعبُر نحو الغياب. نودع الحب، ذاك الرفيق الذي كان يومًا نبض أرواحنا، فترك في داخلنا بصمات لا تمحى. لا نعلم متى اختار أن يبتعد ولا كيف قرر أن يطوي ظلّه بعيدًا عنا. الشيء الوحيد الواضح أن أحلامنا، تلك التي أقمناها بحرص ونسجناها بعهودٍ خالصة، تركت مهجورة على قارعة الطريق كمبنى خاوٍ ينتظر زوارًا قد لا يأتون.
أدركت أنني غير قادر على المغادرة. قلبي ما زال متجذرًا فيك كثبات شجرة عتيقة تقاوم الجفاف رغم ذبول فروعها. قد أبتعد جسديًا، قد أصور للآخرين أنني تجاوزت كل شيء، لكن في أعماقي أعرف أنني ما زلت هناك، حيث كنتَ أنت. فما بيننا لم ينطفئ كليًا، بل يتقد بصمت كجذوة نار تترقب هبوب ريح تعيد إشعالها.
وجدت نفسي متوقفًا طويلًا على عتبة الفراق. مسافر بلا وجهة أو غريب بلا منفى. كنت أتوهم أن عبور تلك الحدود سيكون ممكنًا، لكني عالق بين الانطلاق والوصول. أحمل تذكرة الرحيل دون جهة واضحة أقصدها. عندها أدركت أن الحب ليس مجرد ذكرى يمكن طيها بين طيات الأيام، ولا شعورًا قابلاً للإخماد عند الرغبة؛ بل هو وطن يسكننا من الداخل، يختارنا قبل أن نختاره. وإن حاولنا مغادرته، يبقى هو منفى نحمله معنا...
