خواطر طويله
الخلافات بين الأحبة أمر طبيعي، فهي جزء لا يتجزأ من العلاقات الإنسانية. لكن ليس جميع العلاقات متشابهة، فالفرق واضح بين من يتركك تتخبط في حزنك وبين من يأتي إليك في لحظة الخصام ليقول كلمات تصف عمق الاهتمام، مثل: "لا يمكن أن تهون عليّ". هناك فرق بين حبيب يغيب عنك ويتركك تُقاسي نار الخلاف وحبيب آخر يتسلل إليك في منتصف الليل ليُصر على تجاوز ما حدث قائلاً: "لا أريد أن تنام ودمعة تسكن عينك". قد تكون الخلافات وسيلة لاكتشاف مكانتنا في قلوب الآخرين.
في الليل، تختفي المسافات؛ فجأة يصبح كل بعيد قريباً إلى القلب لكنه يبقى أبعد من اليد. تحت ضوء القمر، تظهر صور أحبائنا الذين فقدناهم وكأن الزمن يعيد تذكيرنا بما رحل عنا. كم نتمنى لو كان بإمكاننا أن نوقف الزمن للحظة أو نعود إلى أيام طمأنينة القلوب وبهجة الأرواح، لكن الواقع يتركنا في مواجهة الليل الطويل والصمت الثقيل.
كبرت فجأة… كبرت حين اضطررت إلى ارتداء قناع القوة بينما داخلي يتصدّع. حين أدركت أنه لا أحد يمكنه أن يحمل عني حزني أو يعيد لي ما فقدته. بعض الأشياء عندما تنطفئ داخلنا لا تعود كما كانت، حتى ملامحنا تفقد قدرتها على الحياة، وتنهكها ثقل الصبر.
البدء من الصفر تحدٍ عسير للغاية. أن تحاول بناء شيء وسط الفراغ، أن تقاوم آلاف الأفكار السلبية التي تلح عليك، بينما ترقب الناس حولك غير فاهمين لماذا تصرّ على تحقيق حلم يبدو مستحيلاً. في تلك اللحظات، تسأل نفسك بصدق: هل أنا مخطئ؟ هل أُضيِّع وقتي؟ ورغم الشكوك التي تزحف إليك، تجد القوة لمقاومتها لأنك تدرك أنّ الاستسلام أشد قسوة من المحاولة.
أحيانًا ألتزم الصمت رغم الحاجة المُلِحة للتفريغ والكلام. وبينما أواجه صعوبة في التعبير عما يكمن بداخلي، ألا تعتقد أن الصمت في بعض الأحيان ليس مجرد خيار للحكمة بل تأكيدٌ على عمق المعنى الذي نعجز عن صياغته بالكلمات؟
يروي أحدهم: "اختلفت مع أقرب أصدقائي بسبب أمر بسيط. فجأة قال لي: ارجع لتناول علاجك النفسي!" لهذا السبب علينا أن نتعلم عدم الفضفضة إلا لمن يستحق الثقة ولا يجعل ضعفنا مادةً مكشوفة أمام العالم. الفضفضة تعرينا، فلا تكشف مشاعرك إلا لمن يُحرص على سترها.
رأيت أحب الناس إليّ وهو يبتعد تدريجياً... رأيته يهملني دون تفسير ويتجاهل محاولاتي للتواصل حتى انتهى الأمر بالفراق. شعرت بألم فادح حين لم تلقَ رسائلي استجابة ولا مشاعري صدى… التجاهل جرح لا يُنسى.
لا أندم إلا على مشاعري التي قُدمت لأشخاص لم يكن لهم قيمة حقيقية في حياتي. العلاقات قد تنتهي... لكن الحسرة تبقى على الشعور الذي لم يكن في مكانه الصحيح.
اليوم، لم أعد أشعر بسعادة غامرة ولا بحزن مدمر. قلبي يبدو وكأنه تحت تأثير مخدر دائم بعد كل ما مر به. فقدت الرغبة في بدء جديد أو الحماس لما كنت يوماً أحب. كل شيء صار بلا لون؛ أحلامي باهتة وأنا أهيم بعيداً عن نفسي... وكأن الطريق إليها أصبح مجهولاً.
الآن يمكنني الحديث عن ماضيّ وكأنه مجرد قصة غريبة لا تخصني بالكامل. هل تجاوزته؟ ربما ليس تماماً، لكنني توقفت عن الخوف من مواجهته! الحقيقة أننا لا ننسى يا صديقي... الذكريات تبقى عالقة في أعماق الصدور. لكنها تتكدس مع الزمن وتتحول من شظايا مؤلمة إلى مجرد ممر عابر. وذات يوم يخفت ألمها ويصبح كالنسيم الذي يمر دون عاصفة. حينها سنضع النقطة الأخيرة في هذه الصفحة بابتسامة هادئة؛ كما نودع مسافراً رحل بلا رجعة. الأيام ستُطوى... لكنها ستترك لنا درساً ناضجاً يحمل في طياته قوة الاستمرار.
لكنني لا أتجاهلك، بل أخاف من تلك المساحات الباردة في علاقاتنا... من المصافحة التي تخلو من الحرارة، الأحاديث التي تبدو مصطنعة، والضحكات بلا روح. أخاف أن أتعرف على ملامحك دون أن أعرف ما يخفيه قلبك حقًا. أخشى أن تتحول أحاديثنا إلى مجرد كلمات تمر علينا بلا شغف أو رغبة، كغرباء نصرف الوقت دون أن نشعر، دون لهفة لاستمرار الحديث أو حتى رغبة في البكاء. كل شيء يبدو زائفًا.
إنه ذلك المنتصف الذي يقتلنا ببطء؛ حيث لا تستطيع الاقتراب ولا الابتعاد، لا النسيان ولا التجاوز. إنه مكان يُثقل الروح بلا حل ولا قوة.
أخاف من نفسي حين أظل قويًا أمام القسوة، أخاف عندما لا أبكي رغم عمق الألم، حين أختار الصمت رغم صخب الأفكار الكامنة داخلي. أخاف حين تعترضني الصدمات لكنني أظل ثابتًا وكأن لا شيء حدث. أكثر ما يخيفني هو فكرة الانهيار المفاجئ، لحظة لا أجد فيها القوة للوقوف مجددًا.
كما كتب كافكا إلى ميلينا: ربما لن نلتقي ثانية، ولكنك ستبقى جزءًا حيًا بداخلي حتى لو حاولت نسيانك، ولن أستطيع ذلك أبدًا.
لا أحبك ولا أكرهك أيضًا. لا يعني لي ما تفعل الآن أو كيف تمر أيامك. الأيام تمضي دونك ولا يؤثر فيَّ إن كنت تُدرك أنني أكذب. أصبحت قادرًا على الحديث عن الماضي وكأنه جزء غريب لا يخصني. ربما تخطيته، ليس بالكامل، لكنني توقفت عن الهروب منه. نحن لا ننسى القصص التي عشناها، فهي تظل داخلك، تنمو وتؤلمك ليلًا. لكنها مع الزمن تتحول إلى محطة عبور، مجرد ذكرى باهتة ينتهي معها الحنين المؤذي. في النهاية، نبكي ثم نبتسم ببرود كما لو أننا نلوّح للمسافر الراحل... وهكذا تنتهي الأمور.
أشعر بالضياع حين يتساءل أحدهم عن حياتي. لا أعلم كيف أجيب؛ كأنها تغيب عني. ربما ملّت مني هي الأخرى أو لم يعد يعجبها ما أقدمه. من المؤسف أنني أدرك أنها لم تعد معي. أشعر بالتعب العارم وكأنني أركض في كل الاتجاهات بلا هدف واضح، حتى الجلوس بات أمرًا شاقًا للغاية، إذ يصبح القلق سيد الموقف كلما توقفت عن الحركة. إنه خوف رهيب ألا تعرف ما الذي يجب عليك فعله.
لماذا نفكر دائمًا في نهايات الأمور؟ ربما لأننا شعوب أدمنت الحزن أو لأننا نخشى كل شيء، حتى السعادة نحاول حمايتها من النهاية التي نخشى اقترابها.
أشد اختبارات الإنسان تكمن في الرضا وسط الحرمان، حين تصطدم أحلامه بتوقعاتٍ خائبة. إنه تلك اللحظة التي يحاول فيها ترويض قلبه الغاضب ليقبل بما حدث مؤمنًا بأن ما كُتب له هو بالفعل الأفضل.
حين يملك الإنسان فكرًا عميقًا يتجاوز سطحية العالم المحيط به، يصبح غريبًا في أعين الآخرين. يُنظر إليه كأنه منبوذ أو جامد أو حتى مجنون ليس لأنه مخطئ بل لأنه يغوص في أعماق الحقيقة بينما يكتفي غيره بالبقاء على السطح. الفكر الذي يستوعب ما بين السطور ويقرأ الأحداث بمنهج فلسفي سابق لعصره يُصبح كائنًا منفردًا وسط مجتمعه؛ أشبه بنسرٍ وحيد بين سرب غربان. إنها مفارقة الحياة الأبدية: كلما ارتفع مستوى وعي الإنسان، زادت المسافة بينه وبين الآخرين. لكن تبقى تلك الغربة تضحية نبيلة مقابل امتلاك رؤية لا تكتفي بالساذج ولا ترضى بالمظاهر الزائفة.
الوحدة التي يختارها الإنسان بمحض إرادته غالباً ما تكون الطريقة الأكثر أماناً لتفادي الآلام الناتجة عن الاحتكاك بالآخرين. ولعل الهدوء والسعادة التي يجدها الشخص في عزلته تعد انعكاساً لراحة البال التي يبحث عنها طويلاً.
لا شك أن الجميع يفتقدون نسخهم القديمة، رغم أنها ربما كانت أقل نضجاً وأكثر ضعفاً وغفلة. ومع ذلك، كانت تلك النسخ تحمل في داخلها قدراً كبيراً من السعادة والراحة. يبقى الشعور بالطمأنينة دائماً أغلى ما يمكن أن يُطلب.
الأمان الحقيقي هو أن تتحدث دون خوف، أن تفصح عما بداخلك وأنت واثق بأنه لن يُستخدم ضدك ذات يوم. الأمان هو أن تمسك بيد أحدهم وأنت مطمئن بأنه لن يفلتها، وأن تجد في حديثك معه انعكاساً لنقاشك الداخلي مع نفسك.
ويتغير الإنسان أحياناً تدريجياً ليتحول إلى شخص يفضّل السلام الداخلي. لا يعاتب، يتجنب الجدال غير المُجدي، ينظر للراحلين عنه بهدوء، ويستقبل الصدمات بصمت مريب.
وفي منتصف الرحلة، تُدرك أن السعي نحو الكمال لم يعد هدفك. كل ما تتمناه هو أن تجد نفسك ساكن الفكر، متوازن المزاج، لا تلقي بالاً لأي شيء، وراضياً تماماً عن كل ما هو عليه.
ألم ما حدث ليس نابعاً مما خسرت، بل من كسرٍ عميق سببه تلك اللحظة التي ظهرت فيها بوجهك الحقيقي أمام من وثقت به. ضعفت أمامه، أظهرت حزنك وجراح طفولتك التي لم تُمحَ بعد، فقط لأن شيئاً بداخلك صدَّق أنه لن يأتي يوم يترك فيه يدك.
لا تكتم الكلمات الطيبة مهما بدت بسيطة، ولا تحبس الحديث اللطيف داخل صدرك. قد تذهب أنت وتظل كلماتك تضيء شخصاً آخر بعدك. أحياناً لا تدرك قوة تأثير كلمات عابرة على روح من يسمعها.
من الأدب الرد على كل جزء في الرسائل التي تصلك، لا على ما يروق لك فقط. من يُشاركك تفاصيله ينتظر منك اهتماماً بكل ما قاله. إن لم يكن لديك إجابة لكل ما كتب، فلتكن صريحاً وأخبره بذلك، لكن لا تجعل التجاهل خيارك أبداً.
كنت أتجنب الحب طوال حياتي. كنت أعرف أن قلبي وعقلي أكبر مني، وأن الجمع بين العاطفة والمنطق أمر شاق. كلما تعمّقت في مشاعر ما، جاء المنطق ليعيدني للواقع صارخاً: هذا الطريق ليس لك.
الخلافات بين الأحبة ليست دائماً سلبية. هناك فرق بين من يتركك تغرق في حزنك ومن يأتيك وسط الخصام ليؤكد أنك لا تهون عليه. هناك فرق بين من ينام تاركاً قلبك يحترق بالفراق ومن يأتيك ليضع خلاف النهار جانباً قائلاً: لن أتركك تنام والدموع في عينيك. في تلك اللحظات يتكشف مدى عمق مكانتك في قلوب الآخرين، وهذا أجمل ما في الخلافات: أن تعرف أنك لا تُنسى، حتى لو أخطأت.
الصمت كان رفيقي الدائم. رغم رغبتي أحياناً في إطلاق ما بداخلي من كلمات مكبوتة، أجد نفسي عاجزاً عن التعبير. أحياناً يكون الامتناع عن الحديث اختياراً أكثر حكمة.
في لحظة غاضبة قال أحدٌ لصديقه: "ارجع خذ أدويتك النفسية". هذه الواقعة تذكرنا أن الفضفضة شكل من أشكال التعري؛ فلا تكشف ضعفك إلا لمن تثق بأنه حريص على ستره.
لقد رأيت أقرب الأشخاص إلى قلبي وهو يتخلى عني شيئاً فشيئاً. بدأت أشعر بتجاهله وكلماته التي أصبحت نادرة، وانتهت القصة بانسحابه الكامل. عشت تلك المشاعر المؤلمة عندما تجاهل رسائلي وروحي ومشاعري بكل بساطة.
.png)