خاطرة طويــلة عــن مــراحـل الحيــاة ’ خاطرة طــويلـة عن الـذكريــات’ خاطرة طــويلــة عـن لــوعة الــحب والـــفراق .


’خاطرة طويلة عن مراحل الحياة’

’خاطرة طويلة عن الذكريات’

’خاطرة طويلة عن لوعة الحب والفراق’




بخطى مثقلة تقدمت نحو صندوق أسراري المهجور منذ زمن بعيد. لم أصدق أنه لا يزال هنا، صامتًا رغم عبء السنين. مددت يدي المرتجفة إلى غطائه، كما لو كنت أطرق بابًا أخشى ما يكمن خلفه. أزلت طبقات الغبار عنه، طبقة تلو الأخرى، كأنني أزيح تراكمات النسيان. وعندما فتحته أخيرًا، اندفعت الذكريات نحوي كنسمة دافئة من زمن آخر.


اليوم، وقد اشتعل الرأس شيبًا وأثقلت السنين خطواتي، التفتّ حولي فلم أجد أحدًا. لا أصدقاء الطفولة، ولا رفاق الشباب، ولا حتى أولئك الذين ظننتهم سيبقون إلى الأبد. جميعهم رحلوا بصمت، وكأن الحياة قطار توقفت محطاته واحدة تلو الأخرى، تاركة إياي وحدي في مقعد بارد لا يجاوره أحد. لم أدرك سرعة الأيام إلا الآن، عند الاقتراب من نهايتها، حيث يصبح الصمت أكثر ارتفاعًا من أي ضجيج، والوحدة أكثر قسوة من أي جرح.


لكل إنسان صندوقه السري الخاص؛ ذاك الذي لا يُفتح إلا خلال لحظات الخلوة الأكثر حميمية. لم يكن صندوقًا خشبيًا أو معدنيًا، بل أوعيتنا غير المرئية التي يصنعها القلب ويغلقها بقفل لا مفتاح له إلا الزمن. نخبئ فيه ما نخشى أن تُبدده الرياح العابرة أو تبتلعه تقلّبات الأيام رغبةً في حمايته من عبث النسيان. لا يحتفظ الصندوق بذهبٍ أو ألماسٍ ولا بما يُشترى بثمنٍ ثمينٍ، لكنه أغلى من كل ما يُعتبر نفيسًا لأنه يحتوي جوهر الحقيقة وصدق التاريخ: وجوه غابت، أصوات خفتت، رسائل كُتبت ولم تُرسل، وروائح قديمة تهب فجأة كأنسام توقظ شوقًا موجعًا.


أمسكت تلك الورقة القديمة بين يدي وبكيت كما لم أفعل من قبل. شعرت وكأن الصندوق قد باح لي بسرّه الأخير؛ رسالة مخبأة عبر سنوات طويلة. أدركت أخيرًا الحقيقة التي تهربت من مواجهتها طوال حياتي: مهما احتضنتُ الذكريات وسعيت للاحتفاظ بها، مصيري هو المضي حيث ذهب الجميع. لم أعد سوى ظل على جدار الزمن، يتلاشى بهدوء مع غروب الشمس.


وجدت صندوقاً في أعماق الزمن، يحمل داخله رسائل صفراء أكلت منها الرطوبة، وورودًا يابسة انكمشت بتلاتها كأسرار دفينة. أقلامًا جافة منذ عقود، وأوراقًا مكدسة تشبه شواهد قبور صغيرة. رائحة الماضي انطلقت منه، مزيج من عبق الأماكن القديمة وضحكات فقدت صداها ودموع امتزجت بالحبر. قلّبت الصفحات وكأنني أنقب في أنقاض ذاتي، باحثًا عن شعاع نور يبدد عتمة الوحدة، لكن ما وجدته في النهاية لم يكن إلا صدى نفسي.


وبرغم مرارة الذكريات، كان في الدموع عزاء خفي. إذ حتى الكلمات المرتعشة المكتوبة في وداعٍ أخير كانت شهادة على أنني كنت يومًا ذا شأن لأحدهم. ذلك الصندوق بما يحمله من شظايا وبقايا وأصداء لا يزال نابضًا بالحياة. حتى لو كانت أواخر أنفاسه تتمثل في رسالة النهاية.


فجأة، تحركت ورقة مرتعشة كأنها تريد النجاة من بين الركام. زحفت ببطء إلى راحتي وكأنها تصر عليّ بقراءتها. حملتها بيدي وقلب خافق بالوجَل. وعندما فتحتها كانت المفاجأة: كلمات وداع مِن يد عزيزة غابت زمنًا. كلمات كالندى الأخير على زهرة ذابلة، تحمل عزاءً مرسلاً من ماضٍ بعيد، كأنها تهمس لي بأن النهاية أقرب مما أتخيل.


أقف مرتبكًا أمام حِمل الذكريات، أغوص في تفاصيل الألم وكأنني أقلب صفحات كتاب مهترئ. أستنشق رائحة الرماد كما لو أنها عبيرٌ ساحر. أستعيد قصص حب اندثرت وأعيد رسم وجوه غابت، وأستدعي أصواتًا ووعدًا متلاشياً، رغم يقيني أنها الآن مجرد شظايا. لم يتبقَ منها سوى جروح قد اندمل بعضها، بينما البعض الآخر ما زال يلمع كندبة خالدة. ومع هذا العذاب، أشعر بشيء من اللذة الغامضة، وكأنني أعصر جراحي لأتأكد أنني لم أزل حيًا.


لكنني لم أستطع بعدُ أن أهزم الوحش الساكن داخلي، وحش الذكريات التي لا تكفّ عن مطاردتي. يقلب أيامي إلى جحيم لا يهدأ. لا أفهم لماذا ما زلت أطارده أو ربما لماذا يطاردني هو؟ لماذا لا أستطيع ترك آثار قصص ماتت منذ زمن بعيد، حكايات احترقت وتحولت إلى رماد تبعثره رياح النسيان؟ ورغم علمي المسبق بأن لا شيء يمكن استعادته، أظلّ أبحث في ذلك الغبار عن كنز أعرف أنه لم يكن موجودًا منذ البدء.


واليوم أجد نفسي حرًا من قيود الحب ومن ألم الأسماء والوعود التي كانت تشدّني إلى الوراء. لكنني أدرك أنني أحمل عبودية من نوع آخر: عبودية الذكرى. أوهم نفسي بالتحرر بينما روحي تتبع خطوات ماض مضى، كأنني أسير خلف طيف لا أمسكه، ليس لألحق به بل لأتأكد ألا يضيع أثره مني تمامًا.


كثيرًا ما تتردد في داخلي تساؤلات عن ذلك الشعور الغريب الذي يجمع بين الألم والنشوة، عن ذلك الجاذب الذي يدفعني للبحث في أعماق الذكرى رغم أن العقل يحمل يقينًا بأن الحب انتهى وأن ما تبقى منه لا يستحق سوى الطمس. ومع هذا، أجد نفسي أسير نحو ما يؤلمني، أقترب منه بلهفة كأنني أستلذ بمرارته. ربما لأن الألم يعيدني إلى تلك اللحظة الحية التي كنت فيها مشتعلاً بالحب، أحببت بكل جوارحي وخسرت بكل ما لدي.


لكنني أدرك جيدًا أنني لست أسعى إلى الماضي ذاته، وإنما إلى ذلك الشعور الأول الذي منحني وهج الحياة: بداية الحب، اكتماله المفاجئ، وانكسار نهاياته. تلك المشاعر رغم قسوتها تملأني نشوة حين ترتسم ملامحها في ذاكرتي، ولهذا أجد نفسي مأسورًا في دوامة الذكريات. ربما لأنني لم أتعلم بعد كيف أعيش بدون ألم، وكيف أفسر ذاتي بعيدًا عن جرح أصبح جزءًا من هويتي.


ومن الغريب أن هذه الحياة تُعاش وكأننا نمر بها كغرباء. قليلون هم الذين يعيرون وجودنا اهتمامًا حقيقيًا؛ الجرح الذي نحمله لا يجد من يحتضنه كما نأمل؛ النبل الذي نتوقعه يبدو غائبًا، فلا وردة تُقدم لنا في الحياة بل أكاليل تفيض علينا حين يعمنا الموت. يتجاهلونك حيًّا ويسرفون في تقديرك ميتًا، وكأن الموت هو العلامة الوحيدة لاعتراف الإنسان بقيمتك.


تخيل أنك تحمل كتاب حياتك حيث لا مجال للعودة إلى الوراء: صفحات تمضي ولا سبيل لاستعادة السطور التي تفلتت منك. كل ما عليك هو التقدم مهما فقدت من معانٍ بين السطور. الحياة تشبه كتابًا لا يمنح فرصة لإعادة المشهد ولا رجعة للبدايات التي هربت. اللحظات تصبح ذكرى، والتاريخ يُحفظ في الذاكرة فقط دون لمس مباشر.


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال